فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (7):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}.
التفسير:
عطف هذه الآية على ما قبلها هو توكيد للشكر الواجب علينا أن نعيش فيه مع اللّه الذي تحفّ بنا ألطافه، وتشتمل علينا نعمه.. ففى كل نفس يتنفسه الإنسان نعم ظاهرة تحدّث بها كل جارحة فيه.. فضلا عن النعم التي تساق إليه من هذا الوجود الذي يتحرك في رحابه ويتقلب بين أرضه وسمائه.
قوله تعالى: {وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ} هو عطف على قوله تعالى: {نِعْمَةَ اللَّهِ} أي اذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذي واثقكم به.
والميثاق الذي واثقنا اللّه به هو ما أشار إليه سبحانه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} [172: الأعراف] فهذا إقرار من الناس جميعا- قبل أن يخلقوا وقبل أن يكونوا أناسا- بالولاء للّه، والاعتراف بربوبيته.. وهو إقرار ضمن الإقرار العام للوجود كلّه بالانقياد للّه، والولاء له.
وإذ يذكر الإنسان أنه كان على عهد مع اللّه وهو في مضمر الغيب، قبل أن يكون له وجود، وقبل أن يستكمل وجوده، ويصبح كائنا، عاقلا رشيدا- إذ يذكر الإنسان هذا من أمر نفسه، ويذكر ما ينبغى أن يكون موقفه من اللّه، وهو الإنسان العاقل الرشيد- وجد من السفاهة والضلال أن يكون على غير هذا الطريق القويم الذي انتظم فيه مع الوجود كله يوم أن لم يكن شيئا.
فكيف يسفه ويحمق، ويشرد عن هذا الطريق، ويتخذ لنفسه طرقا لا معلم فيها، ولا أنيس له في مجاهلها إلا من كان على شاكلته من التأئهين والضالين وإخوان الشياطين؟
هذا، ويمكن أن يكون هذا الميثاق الذي واثق اللّه به الذين آمنوا هو ذلك الميثاق الذي بايع به المسلمون رسول اللّه إذ دخلوا في الإسلام، فقد كانت بيعتهم لرسول اللّه قائمة على: السمع والطاعة في المكره والمنشط أي في الضرّاء والسّرّاء. والعقد الذي وثّقه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مع المؤمنين، هو عقد للّه، ومن ثمّ كانت إضافته إلى اللّه تعالى، تكريما للنبىّ، وتوثيقا بعد توثيق لهذا الميثاق العظيم.. {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} [10: الفتح].
فكل من دخل الإسلام، دخل بهذا الميثاق، سواء شهده أو لم يشهده.
فلا إيمان بغير استجابة، ولا استجابة بغير طاعة وامتثال.

.تفسير الآية رقم (10):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)}.
التفسير:
مما يدخل في الميثاق الذي واثق اللّه به المؤمنين أن يكونوا {قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} والقيام للّه هو الانتصار لشريعته والرعاية لأحكامه.. سواء في محيط الإنسان في ذاته، أو في دائرة الجماعة الإسلامية كلها.. فحيثما كان للّه أمر أو نهى في شأن من الشئون أو موقف من المواقف كان على الإنسان أن يستحضر له وجوده كله، وأن يلقاه بوجوده كلّه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قَوَّامِينَ لِلَّهِ} حيث يحمل هذا الفعل معنيين، يكمل أحدهما الآخر: القيام، ثم المبالغة في هذا القيام إلى أقصى حد يستطاع.
وهذه الدعوة بالقيام بأمر اللّه ونهيه، والمبالغة في هذا القيام، هو أمر ملزم للمؤمن في ذاته، كما هو ملزم للمؤمنين جميعا.. الإنسان فيما هو له وعليه، والجماعة كلها فيما هو لها أو عليها.. فليس يكفى لسلامة الإنسان أن يسلم في نفسه، وإنما أن تسلم الجماعة معه، ففى سلامتها سلامة له، وفى عطبها عطب ضمنى له! وقد شرحنا هذه الآية عند وقوفنا بين يدى الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} [135: النساء] ويلاحظ أن صورة النظم قد اختلفت هنا عن صورتها هناك، فقد سلّط كل من الفعلين على ما سلط عليه صاحبه: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ}.
{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ} وهذا يعنى أن القوامة بالقسط هي قوامة للّه، وأن الشهادة للّه هي شهادة بالقسط.. ذلك أن القسط هو العدل، والعدل صفة من صفات الحق جلّ وعلا.. ومجموع الصورتين يعطينا صورة مؤكّدة للمأمور به فيهما، هكذا:
كونى قوامين للّه.. شهداء للّه.
كونوا قوامين بالقسط.. شهداء بالقسط.
ولكنّ النظم القرآنى جاء بهما على هذا النمط الذي صانهما من هذا التكرار، كما فوّت الجمع بين اللّه سبحانه وتعالى وبين صفته. وكلاهما نحن مدعوون إلى توقيره، مأمورون بالاحتفاء به.
وبين يدى الدعوة إلى رعاية أوامر اللّه، واجتناب نواهيه، والتزام حدود العدل والحق- تنتصب صورتان، إحداهما لمن آمن واهتدى، واستقام على طريق اللّه، فأحل الحلال، وحرّم الحرام، والأخرى لمن كفر باللّه، واتبع هواه، وركب طرق الغواية والضلال.. وفى الصورة الأولى يرى المؤمنون ما أعد اللّه لهم من واسع رحمته، وعظيم فضله، وفى الصورة الثانية يرى الكافرون ما أعد لهم من جهنم وقد فغرت فاها، ومدت ألسنتها لتصطادهم من بعيد وقريب: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}.

.تفسير الآية رقم (11):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}.
التفسير:
الهمّ بالأمر.. هو العزم عليه، دون تنفيذه لأمر ما، من داخل النفس أو خارجها.. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} [24: يوسف].
وبسط فلان إلى فلان يده: مدّها إليه بالشر والأذى.. {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [28: المائدة].
وقد اختلف المفسّرون في هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إلى المؤمنين بالأذى فكف اللّه أيديهم عنهم.
والصورة التي ترتسم لمن يقرأ الآية الكريمة، مستعرضا أحداث الإسلام الأولى، يرى أنها تشير إلى ما وقع في غزوة الخندق، المسماة غزوة الأحزاب كذلك- فقد جاءت قريش بجموعها، وبجموع أحلافها، تريد أن تقتلع الدعوة الإسلامية من أصولها، فعسكرت حول المدينة، ووقفت أمام الخندق الذي أقامه الرسول والمسلمون حولها.. وكان من تدبير اللّه سبحانه أن أوقع الخلاف بين هؤلاء الأحلاف، بعد أن طال بهم المقام في مواجهة المدينة دون أن يصلوا إليها.. ثم أرسل اللّه عليهم ريحا عاصفة في ليلة مظلمة باردة.. فأطفأت نارهم، وقلبت قدورهم، وهدمت خيامهم.. حتى إذا انكشف وجه الصباح كانوا هشيما مبعثرا على كل طريق.. إلا الطريق إلا المدينة، وهكذا كان فضل اللّه، وكانت رحمته التي ينبغى أن تكون مما يذكره المسلمون من نعم اللّه ورحماته! وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [9- 10: الأحزاب].. ويقول سبحانه: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} [25: الأحزاب] فهل نعمة أعظم من هذه النعمة؟ وفضل أكبر من هذا الفضل؟.
ومن عجب ألا أجد أحدا من المفسرين يقول بهذا الرأى.. فيما بين يدىّ من كتب التفسير! وفى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وفى عطفه على قوله سبحانه {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ما يشير إلى أن المراد بذكر نعم اللّه، ومراجعة أفضاله على الإنسان، ليس هو مجرد لذكر باللسان، والتسبيح به، وإنما الذي يحقق لهذا الذكر أثره هو أن يكون مبعثا لخشية اللّه، واستحضارا لجلاله وعظمته، وذلك مما يبعث إلى التقوى، التي تقوم على مراقبة اللّه، وحراسة جوارح الإنسان من معصيته.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)}.
التفسير:
فى مواجهة النعم التي أنعم اللّه بها على المسلمين، ودعاهم إلى تذكرها، وملء مشاعرهم بها، لتفتح قلوبهم بخشية اللّه، وتملأها بتقواه- في مواجهة هذا يذكر اللّه سبحانه ما كان له من نعم وأفضال على بنى إسرائيل ثم ما كان منهم من جحودها، والتنكر لها، واتخاذها ذرائع للإفساد والطغيان.
ثم ما كان من عقاب اللّه لهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، ودمغهم باللعنة والغضب.. وتلك هي عاقبة من حادّ اللّه، وكفر به، ومكر بآياته، وجحد أفضاله ونعمه.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}.
فهذا الميثاق الذي أخذه اللّه على بنى إسرائيل قد حمله إليهم أنبياء اللّه، وعزّرهم النقباء الذين كان كل نقيب منهم على رأس جماعة من جماعاتهم، حتى يكون ذلك أقرب إلى لقائهم معه، واستجابتهم له، لأنه منهم أشبه بالأب من أبنائه، قرابة ومودة.. وهؤلاء النقباء هم رسل اللّه إليهم، ولهذا جاء قول اللّه عنهم. {وبعثنا} حيث يغلب مجيء هذا اللفظ في بعث الرسل من عند اللّه إلى عباد اللّه.
وقوله تعالى: {وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} هو الميثاق الذي أخذه اللّه عليهم، ووثقه معهم.
فهو- سبحانه- معهم، إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وآمنوا بما يبعث إليهم من رسل اللّه، وعزروهم، أي نصروهم، وبذلوا مما في أيديهم في وجوه الخير، أي أقرضوا اللّه قرضا حسنا، بلا منّ ولا أذى، ولا ربا.
إنهم إن فعلوا هذا كفّر اللّه عنهم سيئاتهم وأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وإن كفروا فقد ضلوا سواء السبيل، وركبوا الطريق المؤدى بهم إلى جهنم.. وبئس المصير.
فماذا كان من القوم مع هذا الميثاق العظيم؟
ذلك ما نجده في قوله تعالى، في الآية التالية:

.تفسير الآية رقم (13):

{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}.
التفسير:
لقد نقض بنو إسرائيل الميثاق الذي أخذه اللّه عليهم، فكفروا بآيات اللّه، ومكروا بها وجحدووا نعمه وأفضاله، وكذبّوا رسله، وأخذوهم بالأذى الذي بلغ في كثير من الأحيان حدّ القتل.
فبسبب هذا لعنهم اللّه.. وكفى بهذا العقاب عقابا ونكالا.. إنه الهلاك الأبدى، والضياع لمعالم الإنسانية كلها، والخسران في الدنيا والآخرة.
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [52: النساء] قوله تعالى: {وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} هو مسخ لهذه القلوب، وقلب لطبيعتها، وتحول بها من قلوب بشرية إلى قلوب لا تمتّ إلى عالم البشر بصلة.
وهذا ما يشير إليه اللفظ القرآنى: {وجعلنا} الذي يدلّ على خلق جديد لهذه القلوب، وتصويرها في صورة غير الصورة التي كانت.. ولهذا استباحت تلك القلوب كل منكر، وتقبّلت كل خبيث، دون أن تتأثّم أو تتحرج، حتى بلغ بها ذلك أن عبثت بكلمات اللّه، وغيرت معالمها، وبدّلت أوضاعها، وخلطتها بأهوائها ونزعاتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ}.
وقد ضبط القرآن الكريم الجيل الذي عاصر نزوله من أجيال اليهود- ضبطهم متلبسين بهذا المنكر الذي كان عليه آباؤهم مع كتاب اللّه الذي بين أيديهم.. فقد جرت على ألسنة هؤلاء الأبناء الذين عاصروا نزول القرآن، صور من صور التحريف والتبديل لكلمات اللّه، فقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} [46: النساء].
وهذا شاهد يشهد بلسان الواقع أن الأبناء والآباء على سواء، في قسوة القلوب، وجرأتها على اللّه، وتبديلها لكلماته! قوله سبحانه: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}.
الضمير هنا راجع إلى آباء اليهود، وأنهم لم يقفوا عند حدّ التحريف والتبديل لكلمات اللّه، بل لم يعملوا بما ظل سليما من تحريفهم في الكتاب الذي بين أيديهم.. ذلك أنه بعد أن استقرت التوراة على ما فيها من تحريف، وتداولتها الأيدى، لم يكن من سبيل إلى إدخال تحريف عليها- فكان تحللهم من الأخذ بما لا يرضون من أحكام التوراة الباقية عندهم، هو الطريق البديل لهم من التحريف، لو كان ذلك التحريف مستطاعا لهم.. فعملهم هذا هو تحريف بصورة أخرى، بما يتأولون به النصوص، ويخرّجونها عليه، حسب ما تمليه أهواؤهم.
وقوله تعالى: {وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ} هو خطاب للنبى الكريم، وأنه يجد بين يديه من خيانات اليهود لأمانة الكلمة، وشرف العهد ما يصل حاضر اليهود بماضيهم، وأنهم أبدا على خيانة للّه، ولرسول اللّه، ولعباد اللّه! وفى التعبير عن الخيانة بالخائنة ما يكشف عن هذا الأسلوب الخبيث الذي يتخذه اليهود في خياناتهم، وأنه أسلوب قائم على المداهنة والنفاق.. حيث يخرج اليهود خيانتهم في خبث ودهاء ومواربة، فلا يلقون بها إلا حيث لا ترصدهم العيون، ولا تواجههم الوجوه! وقوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} هو استثناء لجماعة قليلة من اليهود، قد سلمت من هذا الداء الخبيث الذي اشتمل على القوم، ولم يبق على شيء منهم إلا كما يبقى الحريق على بعض ما اشتمل عليه، وكما يبقى البحر على بقايا سفينة غارقة! وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} هو توجيه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقبل هذه الجماعة القليلة التي سلمت وأسلمت من اليهود، وألا يأخذها بجريرة الكثرة الكثيرة منهم! وألا ينظر إليها من خلال موقفها من النبي أول الدعوة، فقد كان اليهود جميعا على عداوة وحسد للنبى.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}، هو معطوف على قوله سبحانه في الآية (13) {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ}.
وبين المعطوف والمعطوف عليه صلة: إذ كانت دعوة المسيح خاصة باليهود، كما يقول المسيح عن نفسه فيما تروى عنه الأناجيل: أنا لم أرسل إلّا إلى خراف إسرائيل الضالة ولهذا كان حواريوه كلهم من اليهود، كما كانت معجزاته لليهود، وفى اليهود، حتى إنه- عليه السلام- أبى على المرأة الأمميّة- أي من غير اليهود- أن يشفى ابنتها مما كانت تعانى من داء، وقال لها تلك القولة التي روتها الأناجيل عنه: ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيداء، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود.. ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضآلة (متى: 15).
وفى قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا} به إشارة إلى أن هؤلاء النصارى الذين أخذ اللّه عليهم الميثاق كانوا من اليهود، الذين اتبعوا المسيح.. والمعنى: ومن اليهود الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وفى هذا تشنيع على اليهود أيضا، إذ كانوا دائما على هذا الخلق اللئيم في المكر بآيات اللّه، ونقض المواثيق التي واثقهم اللّه بها.. فهم في ثوب النصرانية كما هم مسلاخ اليهودية، وهم في اتّباعهم لعيسى كما هم في أخذهم لشريعة موسى.. كفر مع كفر، وضلال إلى ضلال.
وفى قوله تعالى: {نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} إشارة إلى أن أتباع المسيح قد تأولوا دعوته على غير مدلولها الذي أقامهم عليه، وعاش فيهم به.. فلم يكن فيهم إلها ولا ابن إله، ولم يؤمن به الذين عاشوا معه على أنه إله أو ابن إله، ولم يقل أصحاب الأناجيل الأربعة- وفيهم اثنان من الحواريين- أنه إله ولا ابن إله، وإنما كانوا- كما تحدث الأناجيل- ينادونه: يا معلم، يا سيد، وأن أعظم صورة تصوروها له: أنه يوحنّا المعمدان، بعث إليهم من جديد! فنسيان حظهم مما ذكّروا به هو هذا التأويل الفاسد لما في الأناجيل، ولو أنهم استقاموا عليها لما وقع لأحد من أتباعه أن المسيح إله، أو ابن إله! وقد عرضنا هذه القضية من قبل، عند تفسير الآيات الأخيرة من سورة النساء.
قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} هو بيان لثمرة هذا النسيان المتعمد، وذلك التأويل الفاسد لكلمات المسيح وتعاليمه، من أتباعه من اليهود. فقد أشاع اليهود من أتباع المسيح أنهم هم الذين وجّهوا دعوته تلك الوجهة فأخرجوها على هذه الصورة التي لبس المسيح فيها ثوب الألوهية، وقام فيها مقام اللّه.. ولعلنا نذكر هنا دور بولس الرسول وهو يهودى، ومن أتباع المسيح، وحامل لواء التبشير بالمسيحية خارج دائرة اليهود. فقد كان هو الذي أباح ما حرمته الشريعة من حلّ لحم الخنزير، والتحلل من الختان، بل وحرمته، دون أن يلتفت إلى أن المسيح نفسه قد ختن، حسب الناموس! وثمرة هذا النسيان المتعمد هي هذا الخلاف الشديد بين أتباع المسيح.
ذلك الخلاف الذي لا تزيده الأيام إلا عمقا واتساعا، إذ أباح هذا التأويل الفاسد حرمة الأناجيل، وجعل لكل ذى نظر أن يتأول ما يشاء، ويقول ما يريد، بعد أن أهدرت معانى الكلمات المقيدة بألفاظها، وأصبحت الألفاظ رموزا وإشارات، وأحلاما وأضغاث أحلام، يتأولها كل حسب رأيه واجتهاده، غير مقيد بقيد، ولا محتكم إلى لغة.
وهذه العداوة ليست عداوة ترجع إلى اجتهاد في فهم النصّ، بقدر ما هي عداوة ترجع إلى تضارب الأهواء، واختلاف المنازع، ومن هنا لم تكن مجرد عداوة بين علم وجهل، بل كانت عداوة محملة بشحنات ثقيلة من البغض والكراهية، لأنها عداوة بين هوى وهوى ومشرب ومشرب! ثم إن هذه العداوة المحملة بأثقال البغضاء ليست عداوة موقوتة بوقت، ولا محدودة بزمن.. وإنما هي عداوة موصولة، متجددة، لا تنقطع أبدا:
{إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ}.
قوله تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} أي سيعلمون يوم القيامة فساد هذا الذي صنعوه، وغيرّوا به وجه رسالة المسيح ودعوته.
وفى لفظ {يصنعون} دلالة على أن أسلوبهم هذا الذي جروا عليه مع كلمات المسيح وتعاليمه- لا ينقطع أبدا، وأن هذه الكلمات وتلك التعاليم، ستلد كل يوم مواليد جديدة من التأويل والتخريج.. فما يكون حلالا اليوم قد يصبح حراما غدا، وما هو حرام غدا يكون حلالا بعد غد.. وهكذا.
وصدق اللّه العظيم، وصدقت كلماته وآياته، المنزلة على النبي الكريم، الصادق الأمين.
فلقد رأينا كيف كان للمجمع المقدس، الذي انعقد في روما في هذه الأيام أن يخرج على العالم المسيحي بهذا الرأى الذي يجبه معتقدا عاشت فيه المسيحية، واعتنقه المسيحيون قرابة ألفى عام- وهو أن اليهود قد صلبوا المسيح، وحملوا تبعة دمه، هم وأبناؤهم من بعدهم.. إذ قالوا حين قدموه للصلب، كما روت الأناجيل دمه علينا وعلى أبنائنا فجاء المجمع المقدس يبرئ اليهود من دم المسيح، ويقول: إذا كان اليهود الأولون هم الذين صلبوا المسيح واحتملوا دمه.. فما ذنب أبنائهم من بعدهم؟.
وهذه قضية لا دخل للإسلام بها، إذ ينكرها من أصلها.. ولكن الذي نريد أن نقوله هنا- لحساب العقل والمنطق-: ما هو الحكم الذي يحكم به المجمع المقدس على أتباعه الذين عاشوا خلال الألفى عام يتعبدون بلعن اليهود، ويتقربون إلى المسيح بهذه اللعنات التي يسبّحون بها صباح مساء؟ ثم على من تقع تبعة هذه الدماء الغزيرة التي أراقها أتباع المسيح في مدى هذه الأزمان المتطاولة- من اليهود، انتقاما للمسيح، وتشفيّا ممن تطاولت أيديهم إلى إلههم المعبود، حتى علقوه على خشبة الصليب وسقوه المرّ المذاب؟ ثم ألا يحقّ لليهود اليوم أن يطالبوا القائمين على أمر المسيحية بديت ملابين القتلى منهم؟
إن ذلك هو العدل الذي يستقيم مع منطق المجمع المقدس الذي أصدر هذا الحكم، وأفتى بتلك الفتوى! {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} لا بما صنعوا، وحسب.
فإنهم كل يوم يصنعون جديدا، ويستولدون أحكاما وشرائع.